فصل: ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل وولاية أخيه عز الدين بعده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عدة حوادث:

ليلة النصف من ربيع الآخر، انكسف القمر نحو نصف الليل الأخير وغاب منكسفاً.
وفيها أيضاً، في التاسع والعشرين، انكسفت الشمس وقت العصر، فغربت منكسفة.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي الحيص بيص الشاعر، واسمه سعد ابن محمد بن سعد أبو الفوارس، وكان قد سمع الحديث، ومدح الخلفاء والسلاطين والأكابر، وشعره مشهور، فمنه قوله:
كلما أوسعت حلمي جاهلاً ** أوسع فحش له فحش المقال

وإذا شاردة فهت بها ** سبقت مر النعامة والشمال

لا تلمني في شقائي بالعلى ** رغد العيش لربات الحجال

سيف عز زانه رونقه ** فهو بالطبع غني عن سقال

وفي المحرم ماتت شهدة بنت احمد بن عمر الإبري الكاتبة وسمعت الحديث من السراج وطراد وغيرهما، وعمرت حتى قاربت مائة سنة، وسمع عليها خلق كثير الحديث لعلو إسنادها. ثم دخلت:

.سنة خمس وسبعين وخمسمائة:

.ذكر تخريب الحصن الذي بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان:

كان الفرنج قد بنوا حصناً منيعاً يقارب بانياس، عند بيت يعقوب، عليه السلام، بمكان يعرف بمخاضة الأحزان؛ فلما سمع صلاح الدين بذلك سار من دمشق إلى بانياس، وأقام بها، وبث الغارات على بلاد الفرنج، ثم سار إلى الحصن ليخبره ثم يعود إليه عند اجتماع العساكر؛ فلما نازل الحصن قاتل من به من الفرنج، ثم عاد عنه، فلما دخلت سنة خمس وسبعين لم يفارق بانياس بل أقام بها وخيله تغير على بلاد العدو.
وأرسل جماعة من عسكره مع جالبي الميرة، فلم تشعر إلا والفرنج مع ملكهم قد خرجوا عليهم، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه الخبر، فسار في العساكر مجداً حتى وافاهم في القتال، فقاتل الفرنج قتالاً شديداً، وحملوا على المسلمين عدة حملات كادوا يزيلونهم عن مواقفهم، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وهزم المشركين، وقتلت منهم مقتلة كثيرة، ونجا ملكهم فريداً وأسر منهم كثير، منهم: ابن البيرزان صاحب الرملة ونابلس، وهو أعظم الفرنج محلاً بعد الملك، وأسروا أيضاً أخا صاحب جبيل، وصاحب طبرية، ومقدم الداوية، ومقدم الاسبارتية، وصاحب جنين وغيرهم، من مشاهير فرسانهم وطواغيتهم، فأما ابن البيرزان فإنه فدى نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، وإطلاق ألف أسير من المسلمين، وكان أكثر العمل في هذا اليوم لعز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين؛ وحكي عنه أنه قال: ذكرت في تلك الحال بيتي المتنبي وهما:
فإن تكن الدولات قسماً فإنها ** لمن يرد الموت الزؤام تؤول

ومن هون الدنيا على النفس ساعة ** وللبيض في هام الكماة صليل

فهان الموت في عيني، فألقيت نفسي إليه، وكان ذلك سبب الظفر؛ ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضع المعركة، وتجهز للدخول إلى ذلك الحصن ومحاصرته، فسار إليه في ربيع الأول، وأحاط به، وقوى طمعه بالهزيمة المذكورة في فتحه، وبث العساكر في بلد الفرنج للإغارة، ففعلوا ذلك، وجمعوا من الأخشاب والزرجون شيئاً كثيراً ليجعله متارس للمجانيق، فقال له جاولي الأسدي وهو مقدم الأسدية وأكابر الأمراء: الرأي أننا نجربهم بالزحف أول مرة، ونذوق قتال من به، وننظر الحال معهم، فإن استضعفناهم، وإلا فنصب المجانيقما يفوت.
فقبل رأيه، وأمر فنودي بالزحف إليه، والجد في قتاله، فزحفوا واشتد القتال، وعظم المر، فصعد إنسان من العامة بقميص خلق في باشورة الحصن وقاتل على السور لما علاه وتبعه غيره من أضرابه، ولحق بهم الجند فملكوا الباشورة، فصعد الفرنج حينئذ منها إلى أسوار الحصن ليحموا نفوسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد.
وكان الفرنج قد جمعوا في طبرية، فألح المسلمون في قتال الحصن، خوفاً من وصول الفرنج وإزاحتهم عنه، وأدركهم الليل، فأمر صلاح الدين بالمبيت بالباشورة إلى الغد، ففعلوا، فلما كان الغد أصبحوا وقد نقبوا الحصن، وعمقوا النقب، وأشعلوا النيران فيه، وانتظروا سقوط السور، فلم يسقط لعرضه، فإنه كان تسعة أذرع بالنجاري، يكون الذراع ذراعاً ونصفاً، فانتظروه يومين ليسقط فلم يسقط، فأمر صلاح الدين بإطفاء النار التي في النقب، فحمل الماء والقي عليها فطفئت، وعاد النقابون فنقبوا، وخرقوا السور، وألقوا فيه النار، فسقط يوم الخميس لست بقين من ربيع الأول، ودخل المسلمون الحصن عنوة واسروا كل من فيه، وأطلقوا من كان به من أسارى المسلمين،؛ وقتل صلاح الدين كثيراً من أسرى الفرنج، وأدخل الباقين إلى دمشق، وأقام صلاح الدين بمكانه حتى هدم الحصن، وعفى أثره، وألحقه بالأرض، وكان قد بذل الفرنج ستين ألف دينار مصرية ليهدموه بغير قتال، فلم يفعلوا ظناً منهم أنه إذا بقي بناؤه تمكنوا به من كثير من بلاد الإسلام، وأما الفرنج فاجتمعوا بطبرية ليحموا الحصن، فلما أتاهم الخبر بأخذه فت في أعضادهم، فتفرقوا إلى بلادهم، وأكثر الشعراء فيه، فمن ذلك قول صديقنا النشو بن نفاذة، رحمه الله:
هلاك الفرنج أتى عاجلاً ** وقد آن تكسير صلبانها

ولو لم يكن قد دنا حتفها ** لما عمرت بيت أحزانها

وقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي:
أتسكن أوطان النبيين عصبة ** تمين لدى أيمانها وهي تحلف

نصحتكم والنصح للدين واجب ** ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف

.ذكر الحرب بين عسكر صلاح الدين وعسكر قلج أرسلان:

في هذه السنة كانت الحرب بين عسكر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومقدمه ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وبين عسكر الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب بلاد قونية، وأقصرا.
وسببها أن نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، رحمه الله، كان قد أخذ قديماً من قلج أرسلان حصن رعبان، وكان بيد شمس الدين بن المقدم إلى الآن، فطمع فيه قلج أرسلان بسبب أن الملك الصالح بحلب بينه وبين صلاح الدين، فأرسل إليه من يحصره، فاجتمع عليه جمع كثير، يقال: كانوا عشرين ألفاً، فأرسل إليهم صلاح الدين تقي الدين في ألف فارس، فواقعهم وقاتلهم وهزمهم، وأصلح حال تلك الولاية، وعاد إلى صلاح الدين، ولم يحضر معه تخريب حصن الأحزان، فكان يفتخر ويقول: هزمت بألف مقاتل عشرين ألفاً.

.ذكر وفاة المستضئ بأمر الله وخلافة الناصر لدين الله:

في هذه السنة، في ثاني ذي القعدة، توفي الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد، رضي الله عنه، وأمه أم ولد أرمنية تدعى غضة؛ وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر؛ وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان عادلاً حسن السيرة في الرعية، كثير البذل للأموال، غير مبالغ في ما جرت العادة في أخذه؛ وكان الناس معه في أمن عام وإحسان شامل، وطمأنينة وسكون،لم يروا مثله، وكان حليماً قليل المعاقبة على الذنوب، محباً للعفو والصفح عن المذنبين، فعاش حميداً، ومات سعيداً، رضي الله عنه، فكانت أيامه كما قيل:
كأن أيامه من حسن سيرته ** مواسم الحج والأعياد والجمع

ووزر له عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء إلى أن قتل في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، ولما قتل حكم في الدولة ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر المعروف بابن العطار، وكان خيراً، حسن السيرة، كثير العطاء، وتمكن تمكناً كثيراً، فلما مات المستضيء شرع ظهير الدين ابن العطار في اخذ البيعة لولده الناصر لدين الله، أمير المؤمنين، فلما تمت البيعة صار الحاكم في الدولة أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب.
وفي سابع ذي القعدة، قبض على ابن العطار ظهير الدين، ووكل عليه في داره، ثم نقل إلى التاج، وقيد ووكل به، وطلبت ودائعه وأمواله، وفي ليلة الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة اخرج ميتاً على رأس حمال سراً، فغمز به بعض الناس، فثار به العامة، فألقوه على رأس الحمال، وكشفوا سوءته، وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد، وكانوا يضعون بيده مغرفة يعني أنها قلم وقد غمسوها في العذرة ويقولون: وقع لنا يا مولانا، إلى غير هذا من الأفعال الشنيعة، ثم خلص من أيديهم ودفن، هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفه عن أموالهم وأعراضهم؛ وسيرت الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة، فسير صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان، صاحب همذان وأصفهان والري وغيرها، فامتنع من البيعة، فراجعه صدر الدين، واغلظ له في القول، حتى أنه قال لعسكره في حضرته: ليس لهذا عليكم طاعة ما لم يبايع أمير المؤمنين، بل يجب عليكم أن تخلعوه من الأمارة، وتقاتلوه، فاضطر إلى المبايعة والخطبة، وأرسل إلى رضي الدين القزويني مدرس النظامية إلى الموصل لأخذ البيعة، فبايع صاحبها، وخطب للخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة هبت ريح سوداء مظلمة بالديار الجزرية والعراق وغيرها، وعمت اكثر البلاد من الظهر إلى أن مضى من الليل ربعه، وبقيت الدنيا مظلمة لا يبصر الإنسان صاحبه، وكنت حينئذ بالموصل، فصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة على الظن والتخمين، وأقبل الناس على التوبة والتضرع والاستغفار، وظنوا أن القيامة قد قامت، فلما مضى مقدار ربع الليل زال ذاك الظلام والعتمة التي غطت السماء، فنظرنا فرأينا النجوم، فعلمنا مقدار ما مضى من الليل، لأن الظلام لم يزدد بدخول الليل، وكان كل من يصل من جهة من الجهات يخبر بمثل ذلك.
وفيها في ذي القعدة، نزل شمس الدولة أخو صلاح الدين عن بعلبك، وطلب عوضاً عنها الإسكندرية، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه ابن أخيه، فسار إليها، وجمع أصحابه، وأغار على بلاد الفرنج، حتى وصل إلى قلعة صفد، وهي مطلة على طبرية، فسبى وأسر وغنم وخرب وفعل بالفرنج أفاعيل عظيمة.
وأما شمس الدولة فإنه سار إلى مصر وأقام بالإسكندرية، وإذا أراد الله أن يقبض رجلاً بأرض جعل له إليها حاجة، فإنه أقام بها إلى أن مات بها.
وفيها قارب الجامع الذي بناه مجاهد الدين قايماز بظاهر الموصل منجهة باب الجسر الفراغ، وأقيمت فيه الصلوات الخمس والجمعة، وهو من احسن الجوامع.
وفيها توفي أحمد بن عبد الرحمن الصوفي شيخ رباط الزوزني، وسمع الحديث وكان يصوم الدهر؛ وعبد الحق بن عبد الخالق بن يسف، سمع الحديث ورواه، وهو من بيت الحديث؛ والقاضي عمر بن علي بن الخضر أبو الحسن الدمشقي، سمع الحديث ورواه وولي قضاء الحريم؛ وعلي بن أحمد الزيدي، سمع الحديث الكثير، وله وقف كتب كثيرة ببغداد، وكان زاهداً، خيراً، صالحاً؛ ومحمد بن علي بن حمزة أبو علي الأقساسي نقيب العلويين بالكوفة، وكان ينشد كثيراً:
رب قوم في خلائقهم ** عرر قد صيروا غرراً

ستر المال القبيح لهم ** سترى إن زال ما سترا

ومحمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن سديد الدولة الأنباري، كاتب الإنشاء بعد أبيه؛ وأبو الفتوح بصر بن عبد الرحمن الدامغاني الفقيه، كان مناظراً حسن المناظرة، كثير العبادة، ودفن عند قبر أبي حنيفة. ثم دخلت:

.سنة ست وسبعين وخمسمائة:

.ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل وولاية أخيه عز الدين بعده:

في هذه السنة، ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل وديار الجزيرة، وكان مرضه السل، وطال به، ثم أدركه في آخره سرسام، ومات.
ومن عجيب ما يحكى أن الناس خرجوا سنة خمس وسبعين يستسقون لانقطاع الغيث وشدة الغلاء، وخرج سيف الدين في موكبه، فثار به الناس وقصدوه بالاستغاثة، وطلبوا منه أن يأمر بالمنع من بيع الخمر، فأجابهم إلى ذلك، فدخلوا البلد وقصدوا مساكن الخمارين، وخربوا أبوابها، ودخلوها، ونهبوها، وأراقوا ما بها من خمور، وكسروا الظروف، وعملوا ما لا يحل، فاستغاث أصحاب الدور إلى نواب السلطان، وخصوا بالشكوى رجلاً من الصالحين يقال له أبو الفرج الدقاق، ولم يكن له يد في الذي فعله العامة من النهب، وما لا يجوز فعله، إنما هو أراق الخمور، ونهى العامة على الذي يفعلونه، فلم يسمعوا منه، فلما شكى الخمارون منه أحضر بالقلعة، وضرب على رأسه، فسقطت عمامته، فلما أطلق لينزل من القلعة نزل مكشوف الرأس، فأرادوا تغطيته بعمامته، فلم يفعل، وقال: والله لا غطيت رأسي حتى ينتقم الله لي ممن ظلمني! فلم يمض غير أيام حتى توفي الدزدار الذي تولى أذاه، ثم بعقبه موت سيف الدين، واستمر بها إلى أن مات، وعمره حينئذ نحو ثلاثين سنة. وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر، وكان حسن الصورة، مليح الشباب، تام القامة، ابيض اللون، وكان عاقلاً وقوراً، قليل الالتفات إذا ركب وإذا جلس، عفيفاً لم يذكر عنه ما ينافي العفة.
وكان غيوراً شديد الغيرة لا يدخل دوره غير الخدم الصغار، فإذا كب أحدهم منعه، وكان لا يحب سفك الدماء، ولا أخذ الأموال على شح فيه وجبن.
ولما اشتد مرضه أراد أن يعهد بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه، وكان عمره حينئذ اثنتي عشر سنة، فخاف على الدولة من ذلك لأن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكن بالشام، وقوي أمره، وامتنع أخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان لذلك، والإجابة إليه، فأشار الأمراء الأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعل الملك بعده في عز الدين أخيه، لما هو عليه من الكبر في السن والشجاعة والعقل وقوة النفس، وأن يعطي ابنيه بعض البلاد، ويكون مرجعهما إلى هز الدين عمهما والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز، ففعل ذلك، وجعل الملك في أخيه، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه، وقلعة عقر الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك.فلما توفي سيف الدين ملك بعده الموصل والبلاد أخوه عز الدين، وكان المدبر للدولة مجاهد الدين، وهو الحاكم في الجميع، واستقرت الأمور ولم يختلف اثنان.

.ذكر مسير صلاح الدين لحرب قلج أرسلان:

في هذه السنة سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من الشام إلى بلاد قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس وما بينهما، وقونية، ليحاربه.وسبب ذلك أن نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر، كان قد تزوج ابنة قلج أرسلان المذكور، وبقيت عنده مدة، ثم إنه أحب مغنية، فتزوجها، ومال إليها، وحكمت في بلاده وخزائنه، واعرض عن ابنة قلج أرسلان، وتركها نسياً منسياً، فبلغ أباها الخبر، فعزم على قصد نور الدين واخذ بلاده، فأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يستجير به ويسأله كف يد قلج ارسلان عنه، فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان في المعنى، فأعاد الجواب: إنني كنت قد سلمت إلى نور الدين عدة حصون مجاورة بلاده لما تزوج ابنتي، فحيث آل الأمر معه إلى ما تعلمهن فأنا أريد أن يعيد إلي ما أخذه مني.
وترددت الرسل بينهما، فلم يستقر حال فيها، فهادن صلاح الدين الفرنج، وسار في عساكره، وكان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب فيها، فتركها ذات اليسار، وسار على تل باشر إلى رعبان، فأتاه بها نور الدين محمد وأقام عنده، فلما سمع قلج أرسلان بقربه منه أرسل إليه أكبر أمير عنده، ويقول له: إن هذا الرجل فعل مع ابنتي كذا، ولا بد من قصد بلاده، وتعريفه محل نفسه، فلما وصل الرسول، واجتمع بصلاح الدين، وأدى الرسالة،امتعض صلاح الدين لذلك واغتاظ، وقال للرسول: قل لصاحبك والله الذي لا غله إلا هو لئن لم يرجع لأسيرن إلى ملطية وبيني وبينها يومان، ولا أنزل عن فرسي إلا في البلد، ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه.فرأى الرسول أمراً شديداً، فقام من عنده، وكان قد رأى العسكر وما هو عليه من القوة والتجمل، وكثرة السلاح والدواب وغير ذلك، وليس عنده ما يقاربه، فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم، فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به، فأحضره فقال له: أريد أن أقول شيئاً من عندي ليس رسالة من عند صاحبي، واحب أن تنصفني. فقال له: قل!! قال: يا مولانا ما هو قبيح بمثلك، وأنت من اعظم السلاطين وأكبرهم شأناً، أن تسمع الناس عنك انك صالحت الفرنج، وتركت الغزو ومصالح المملكة، وأعرضت عن كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة، وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة، وسرت وخسرت أنت وعساكرك الأموال الكثيرة من أجل قحبة مغنية؟ ما يكون عذرك عند الله تعالى، ثم عند الخليفة وملوك الإسلام والعالم كافة؟ واحسب أن أحداً ما يواجهك بهذا، أما يعلمون أن الأمر هكذا؟ ثم احسب أن قلج ارسلان مات، وهذه ابنته أرسلتني إليك تستجير بك، وتسألك أن تنصفها من زوجها، فإن فعلت، فهو الظن بك أن لا تردها.
فقال: والله الحق بيدك، وإن الأمر لكما تقولن ولكن هذا الرجل دخل علي وتمسك بي ويقبح بي تركه، لكنك أنت اجتمع به، واصلح الحال بينكم على ما تحبون، وأنا أعينكم عليه وأقبح فعله عنده؛ ووعد من نفسه بكل جميل، فاجتمع الرسول بصاحب الحصن، وتردد القول بينهم، فاستقر أن صاحب الحصن يخرج المغنية من عنده بعد سنة، وإن كان لا يفعل ينزل صلاح الدين عن نصرته، ويكون هو وقلج أرسلان عليه، واصطلحوا على ذلك، وعاد صلاح الدين عنه إلى الشام، وعاد نور الدين إلى بلاده، فلما انقضت المدة أخرج نور الدين المغنية عنه، فتوجهت إلى بغداد، وأقامت بها إلى أن ماتت.

.ذكر قصد صلاح الدين بلد ابن ليون:

وفيها قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني بعد فراغه من أمر قلج أرسلان، وسبب ذلك أن أبن ليون الأرمني قد استمال قوماً من التركمان وبذل لهم الأمان، فأمرهم أن يرعوا مواشيهم في بلاده، وهي بلاد حصينة كلها حصون منيعة، والدخول إليها صعب، لأنها مضائق وجبال وعرة، ثم غدر بهم وسبى حريمهم، واخذ أموالهم، وأسر رجالهم بعد أن قتل منهم من حان أجله.
ونزل صلاح الدين على النهر الأسود، وبث الغارات على بلاده، فخاف ابن ليون على حصن له على رأس جبلن أن يؤخذ فخربه وأحرقه،، فسمع صلاح الدين بذلك، فأسرع السير إليه، فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائر وأقوات، فغنمها، وانتفع المسلمون بما غنموه، فأرسل ابن ليون يبذل إطلاق ما عنده من الأسرى والسبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واستقر الحال، وأطلق الأسرى وأعيدت أموالهم، وعاد صلاح الدين عنه في جمادى الآخرة.

.ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة:

ذكر ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة بعد خلاف صاحبها عليه:
في هذه السن ة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى إفريقية،وملك قفصة.
وكان سبب ذلك أن صاحبها ابن عبد المعز بن المعتز لما رأى دخول الترك إلى إفريقية واستيلائهم على بعضها، وانقياد العرب إليهم، طمع أيضاً في الاستبداد والانفراد عن يوسف وكان في طاعته، فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العصيان، ووافقه أهل قفصة، فقتلوا كل من كان عندهم من الموحدين أصحاب أبي يعقوب، وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، فأرسل والي بجاية إلى يوسف بن عبد المؤمن يخبره باضطراب أمور البلاد، واجتماع كثير من العرب إلى قراقوش التركي الذي دخل إلى إفريقية وقد تقدم ذكر ذلك وما جرى في قفصة من قتل الموحدين ومساعدة أهل قفصة صاحبهم على ذلك، فشرع في سد الثغور التي يخافها بعد مسيره، فلما فرغ من جميع ذلك جهز العسكر وسار نحو إفريقية سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحصرها ثلاثة أشهرن وهي بلدة حصينة، وأهلها أنجاد، وقطع شجرها.
فلما اشتد الأمر على صاحبها وأهلهان خرج منها مستخفياً لم يعرف به أحد من أهل قفصة ولا من عسكره، وسار إلى خيمة يوسف، وعرف حاجبه أنه قد حضر إلى أمير المؤمنين يوسف، فدخل الحاجب واعلم يوسف بوصول صاحب قفصة إلى باب خيمته، فعجب منه كيف أقدم على الحضور عنده بغير عهد، وأمر بإدخاله عليه، فدخل وقبل يده، وقال: قد حضرت أطلب عفو أمير المؤمنين عني وعن أهل بلدي، وان يفعل ما هو أهله؛ واعتذر، فرق له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد، وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسير على بن المعز صاحبها إلى بلاد المغرب، فكان فيه مكرماً عزيزاً، وأقطعه ولاية كبيرة؛ ورتب يوسف لقفصة طائفة من أصحابه الموحدين، وحضر مسعود بن زمام أمير العرب عند يوسف أيضاً، فعفا عنه وسيره إلى مراكش، وسار يوسف إلى المهدية، فاتاه بها رسول ملك الفرنج، صاحب صقلية، يلتمس الصلح منه، فهادنه عشر سنين، وكانت بلاد إفريقية مجدبة فتعذر على العسكر القوت وعلف الدواب، فسار إلى المغرب مسرعاً، والله أعلم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة توفي شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، أخو صلاح الدين الأكبر، بالإسكندرية، وكان قد أخذها من أخيه إقطاعاً، فأقام بها فتوفي، وكان له أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون له الأموال من زبيد وعدن، وكل ما بينهما من البلاد والمعاقل، وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً، يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن، ودخل الإسكندرية، وحكمه في بلاد أخيه صلاح الدين وأمواله نافذ، ومع هذا، فلما مات كان عليه نحم مائتي ألف دينار مصرية ديناً، فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما دخل إلى مصر، فإنه لما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر في شعبان من السنة،واستخلف بالشام عز الدين فرخشاه ابن أخيه شاهتشاه، وكان عاقلاً حازماً شجاعاً.
وفيها توفي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الأصفهاني بالإسكندرية، وكان حافظ الحديث وعالماً به سافر في طلب الكثير.
وتوفي أيضاً في المحرم علي بن عبد الرحيم المعروف بابن العصار اللغوي ببغداد، وسمع الحديث وكان من أصحاب ابن الجواليقي. ثم دخلت:

.سنة سبع وسبعين وخمسمائة:

.ذكر غزاة إلى بلد الكرك من الشام:

في هذه السنة سار فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق إلى أعمال الكرك ونهبها.
وسبب ذلك أن البرنسن صاحب الكر، كان من شياطين الفرنج ومردتهم، وأشدهم عداوة للمسلمين، فتجهز، وجمع عسكره ومن أمكنه الجمع، وعزم على المسير في البر إلى تيماء، ومنها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، فسمع عز الدين فرخشاه ذلك، فجمع العساكر الدمشقية وسار إلى بلده ونهبه وخربه، وعاد إلى طرف بلادهم، وأقام ليمنع البرنس من بلاد الإسلام، فامتنع بسببه عن مقصده، فلما طال مقام كل واحد منهم في مقابلة الآخر علم البرنس أن المسلمين لا يعودون حتى يفرق جمعه، ففرقهم وانقطع طمعه من الحركة، فعاد فرخشاه إلى دمشق، وكفى الله المؤمنين شر الكفار.

.ذكر تلبيس ينبغي أن يحتاط من مثله:

كان سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ الكناني ينوب عن شمس الدولة أخي صلاح الدين باليمن وتحكم في الأموال والبلاد بعد أن فارقها شمس الدولة،كما ذكرنا، وكان هواه بالشام لأنه وطنه، فأرسل إلى شمس الدولة يطلب الإذن له المجيء إليه، فأذن له في المجيء، فاستناب بزبيد أخاه حطان ابن كامل بن منقذ الكناني، وعاد إلى شمس الدولة، وكان معه بمصر. فمات شمس الدولة، وبقي مع صلاح الدين فقيل عنه: إنه أخذ أموال اليمن وادخرها، وسعى به أعداؤه، فلم يعارضه صلاح الدين.
فلما كان هذه السنة وصلاح الدين بمصر اصطنع سيف الدولة طعاماً وعمل دعوة كبيرة، ودعا إليها أعيان الدولة الصلاحية بقرية تسمى العدوية. وأرسل أصحابه يتجهزون من البلد، ويشترون ما يحتاجون إليه من الأطعمة وغيرها، فقيل لصلاح الدين أن ابن منقذ يريد الهرب، وأصحابه يتزودون له، ومتى دخل اليمن أخرجه عن طاعتك؛ فأرسل صلاح الدين فأخذه والناس عنده وحبسه، فلما سمع صلاح الدين جلية الحال علم أن الحيلة تمت لأعدائه في قبضه، فخفف ما كان عنده عليه، وسهل أمره وصانعه على ثمانين ألف دينار مصرية، سوى ما لحقها من الحمل لأخوة صلاح الدين وأصحابه وأطلقه وأعاده إلى منزلته، وكان أديباً شاعراً.